أول متوسطة للبنين في هيت
أنهى عبد العزيز دراسته الابتدائية شأنه شأن العديد من أقرانه .. وظل قاعداً يبحث عن مدرسة يستكمل فيها دراسته .. يتجول وأصدقائه في الساحات الكثيرة المنتشرة في المدينة في الخندق والباب الغربي والسور .. كانوا يترفعون عن اللعب مع الفتية وحينما يجتمعون يستذكرون الصف والدرس وإصطفاف يوم الخميس حينما يقرأ نشيد .
أهلاً بكم صحــبي ..... ياخــيرة الامـجاد
أهلاً على الرحب ..... شرفتموا ذا الناد
أو حين يتطاول أحدهم وبشجاعة بقصيدة عنترة سل الرماح العوالي . أو يتفاخر آخر بقصيدة لغة القرآن التي رفع الله لواها . وفي الشطوط وفي الجراف عندما يلعبون بالكرة وهم يسبحون في الفرات ينشدون قصيدة البهاء زهير :-
كررتي كررتي ماأحلاها ..... هي شكلها كالتفاحة أو أحلا
وظل الفتية في شوق كبير الى الكتاب والمطالعة . وكثيراً ما كان يتمنى لو أن أباه ما كان نجار نواعير ليسعفه بدينار واحد كل شهر ليذهب الى الرمادي يمضي فيها قدماً نحو العلا العلمي .. لكنه كان ينظر الى جماعته فيرى أن آبائهم كسبة هذا إبن حائك وآخر إبن بستاني لا تزيد مساحة أرضه رمية عصى وآخر لايتعدى دخل أباه فلاسين معدودة .
أمه كانت تتمنى أن يكون معلماً .. يلبس بنطلوناً وسدارة على رأسه ويوماً أشارت له إلى أبنت خاله الصبيه ذات الوجه القمري والقوام المغزلي والذي يلفه ثوب جرصي الفصال , سمع عبد العزيز همس أمه له فأوقدت في عواطفه جذوة الشعور نحوها .. فلم يكترث , بل كان جل تفكيره في أين السبيل نحو مدرسة يتدرج فيها نحو العلم .
تسآل رجال المدينة عن الفتية الذين أنهوا دراستهم ولم يتدرجوا في العلم .. ففكروا في إيجاد حل لهم .. فآباهم محدودي الدخل لا يستطيعون سد نفقات سفر أولادهم حينما يرسلونهم الى الرمادي .
فقرروا بناء مدرسة ثانوية لفتية أذكياء يتطلعون نحو العلم . وتنتشلهم مما هم فيه من الضياع ويشبعون رغباتهم من المعرفة .
فأخذوا أمراً ببناء ثانوية .. جمعوا أموالاً من الموسرين وذهبوا الى مدن أخرى لزيادة المبلغ .. حددوا أرضاً مستوية تقع على الجانب الجنوبي للمدينة .. وتقاطر الرجال والشباب والفتيان من كل الساحات والملاعب للمساهمة في البناء كان هذا عام 1949 . ووضعت الاسس على غرار إعدادية الرمادي . والى العمل .
جاء الحفارون لحفر الاسس .
وجاء الحجارون لنحت الحجارة .
وجاء السقائون لسقي العمال ماءاً فراتياً .
وجاء الصبية ( يناوشون ) الحجارة .
وجاء الفلاحون بعذوق التمر .
وجاءت طباق الخوص الملونة مملوءة خبزاً وبصلاً .
ووقفت نساء المدينة عند سورها يزغردن للرجال .وجاءت سيارات من بغداد تحمل مواد لم تكن هيت تصعها من حديد وشبابيك وأبواب خشبية .
وأرتفع البناء وإرتفعت واجهة البناية بقوسها العال الجميل الشكل . وأفتتحت عام1951 ليبدأ الطلاب في الدوام فيها . وأستقبلت طلاباً ممن أنهوا دراستهم في الابتدائية في السنوات الماضية وتبرع للتدريس فيها معلمون من ذوي الخبرة الجيدة في الرياضيات والانكليزية كما وتبرع طبيب المدينة للتدريس العلوم والكيمياء . وسويت ساحة لكرة السلة والاخرى للطائرة وسوى الطبيب ساحة للتنس .
وتسابق طلابها في الالعاب الرياضية مع عموم مدارس لواء الرمادي .. وكانت لهم المراتب العليا وحين يأتون فائزين مكللين به تستعد المدينة لإستقبال أبناءها الفائزون في الاستعراضات الرياضية والمسابقات الادبية والعلمية .
وكان على طلبة الثانوية لبس البناطيل غير الدشاديش التي يلبسونها في المدارس الابتدائية .
وأشتري لعبد العزيز بنطلوناً جميل الفصال .. لونه ليلي حالك السواد .. لبسه عند دخوله الثانوية .. لم يكن يعتاده من قبل .. تبختر فيه فرحاً جذلاناً .. البنطلون محط نظر وإعجاب كل الطلاب . وقد سر حين إستدعاه المدرس لحل رموز مسألة على السبورة . كان سروره عظيماً بتباهيه به أمام الطلاب والمدرس لا بحل المسألة .
وعلى مر الايام إتسخ البنطلون .. وطلب من أمه أن تعتني به أثناء الغسل وأن لا تكثر من وضع ( الشنان ) عليه .. وأن تدفء على حرارة الشمس ماء غسيله .. وكان له ما أراد .
ورآه منشوراً على الحبل لوحده .. سر كثيراً كون بنطلونه قد نشر لوحده خوف إتساخه من ( الهدوم ) الاخرى .
وفي الصباح ... أستيقظ للذهاب الى الثانوية .. لبسه فوجده (مزملقاً ) أو (مشلتحاً ) أخذه وذهب الى أمه وقال لها :-
أهذا بنطلوني ..قالت الام : مالنا غيره ولا أحد يلبس مثل هذا غيرك يا عبد العزيز.. فأمسك وأخاه كل من طرف فما إستطاعوا له ( مطاً ) ولا سحباً ووضعاه على الارض فمسداه بايديهما وما من جدوى .. البنطلون قد ( كش ) في الغسل كاد أن يخبطه على الارض .. تذكر بأن ليس له سواه .
وأفترش الارض متألماً .. قال في نفسه تبا للبناطيل ولعن الحسد والحساد ولعن كل من له عيون زرق .. وقعد يومين لا يذهب الى الثانوية .. كيف يروح بهذا ( المزملق ) .
وفي العصر جاءت عمة عبد العزيز وجارتهم .. يهنئون أمه بنزول عبد العزيز الى الثانوية وبأنه وضع الخطوات الاولى نحو المعلمية وسوف يلبس سدارة ويصير أفندياً .
كانت الام ترد على المهنئين بخوف ووجل وعرف الجميع سر حزن عبد العزيز .
قالت عمته : ثقله يا بني بشئ حار عسى ان يرجع (سده ) القماش الى سابق حاله . تذكر بثقالة الجري .. قام فوجدها في الطاوة وعليها زيت متجمد (رجدها ) على الارض , وجاء بكتلي الشاي وبالقدر الكبير فوجدهما ( مشحران ) بالسخام .
وقالت الجارة :- ( بخ ) عليه ماءاً من فمك وسفطه بعناية تحت فراشك عله يستطيل ويكوى .
ركض الى حب الماء وتناول الدلو وملأ فاه وبخ عليه الكثير حتى أصبح مبتلاً ورتبه تحت دوشكٍ ثقيلٍ وأضطجع عليه .
وجاء زملاءه يسألون عن سر غياب عبد العزيز عن الدوام . حسبوه مريضاً جاءوا له بشراب فوجدوه نائماً .
قالا ما الامر يا عبد العزيز :
قال : البنطلون يا إخوان ما عاد بنطلوناً لقد صغر وما عاد لبسه يليق .
قال الجميع : إلبسه لنراه عليك . لبسه فوجدوه مزملقاً قصيراً ضيقاً ..
قالوا : أن ساقاك يا عبد العزيز سود كما لون البنطلون فلا تحسبه قد قصر وتشلتح عليك .. وأرجع الى درسك وصفك فالمدرس قد سأل عليك .. فأقنعوه في الدوام .
عاد عبد العزيز الى الدوام وبه شي من الحزن .. لكنه كثير الشوق الى العلم وهو اللبيب الذكي .
أظهر الطلبة تفوقاً رائعاً في دراستهم في الثانوية وقد اعفي في الصف الاول المتوسط خمسة طلبة وكان لهم شأن علمي كبير فيما بعد .
وفي عام 1954 جاء هيت رئيس وزراء العراق عبد الوهاب مرجان آنذاك فأصطف لإستقباله طلبة وتلاميذ المدارس إبتدأ من مركز المدينة حتى مهبط طائرته في منطقة الشيخ ( أحمد ) فأكرم كرم هيتي وأقيم له إحتفالاً رائعاً في ساحة الثانوية المقيرة بالقار والقى السيد أمين ملا علي قصيدة في حضرته وناشده بمطالب لمدينة هيت و لبناء صفين للثانوية .
ومنها :-
اليوم بالغار لا بالقار تزدان ... هذي الربى ويمسى الاسى والبان
اليوم تختال تهياً في مفاتنها ... هيت وتحسدها في الارض بـــلدان
هذي طلائع آمال تراودنا ... أن يشمل البلد المنســــــي عمـران
بالنفط تزخروالكبريت تربته... والعدنان بواقــيت وعـــــقبــــــــان
مولاي الجسرلانحصي منافعه... تنموعلى الجسراسواق وتزدان
والثانوية ترجو ان يكون لها... مأوى لقــد نال من ابنــــاءها الخان
والثانوية يا مولاي ينقصها ... صفان لو كمـــــلا لم يبق نقصان
منقول