حديثة...من خاصرة الجبل إلى خاصرة الفرات
مابين مدينة (عنه) جنوباً بمسافة 75 كيلومتراً، ومدينة الرمادي شمالاً بمسافة 130كم وعلى مبعدة 250كيلومتراً عن بغداد، تسترخي مدينة حديثة على ضفاف النهر مباشرة كونها على المستوى الجغرافي واحدة من مدن أعالي الفرات، وواقع الامر فأن هذه المدينة إن لم تكن عروسة الفرات فهي واحدة من أحلى عرائسه.
مشهد عام
حين تتباطأ المركبة في سيرها ايذاناً بوصول حديثة، عليك أن تنفض عن عينيك متاعب الرحلة الطويلة لكي تتعرف على المدينة جيداً منذ اللحظة التي تجتاز فيها (الحقلانية مدخل حديثة وموطنُ جسرها الأثري وعين مائها الفوارة).
تقدّم هذه العروس نفسها للزائرين على هيئة أربعة شرائط أو خطوط متوازية تمتد طولياً إلى قرابة عشرة كيلومترات، يُعبّرُ الشريط الأول الذي يقع إلى جهة اليسار عن نفسه، بسلسلة يصعب وصفها بالجبلية، لأنها أقرب ماتكون إلى المرتفعات الصخرية، وهذه التكوينات الصخرية التي تتفاوت في إرتفاعها وإنخفاضها تفاوتاً كبيراً، تؤلف بحد ذاتها عالماً مبهراً، فهي عدا عن التشكيلات الجميلة الناتجة عن تداخلات الصخور تشكل إحدى مكونات السكن الرئيسة للمدينة، حيث قام مئات المواطنين ببناء منازلهم عند تلك المرتفعات، ولأنهم اصبحوا "معلقين" وبعيدين عن الأرض فقد عمدوا الى بناء السلالم الحجرية، ولم يجد بعض السكان حرجاً في إستثمار المساحات الجبلية المستوية فحولوها إلى مزارع صغيرة للخضروات بحيث يبدو للناظر وكأنه أمام مقطع من مقاطع الجنائن المعلقة.
ولعل مما يزيد هذا الشريط الجبلي إمتاعاً هو كثرة المغارات والكهوف التي يبلغ إرتفاع بعضها إلى عدة أمتار، فيما يمتد عمقها الى مسافات بعيدة.... ويحاذي هذا الشريط، الشارع الرئيس المعبد الذي تتصل جهته الثانية- أي جهة الشارع- بالخط أو الشريط الثالث وهو سلسلة متصلة من الحقول وبساتين النخيل والفواكه، ويعدُّ هذا الخط الأحلى والأكثر بهاء وجمالية، لأنه في الوقت الذي يشكل الثقل السكاني الأعظم للمدينة، حيث تتوزع مئات المنازل بين البساتين والأزقة الملتوية، فأنه يطل في الوقت نفسه على النهر مباشرة حيث لا فاصلة تذكر بين هذا الشريط الأخضر بين الفرات الذي يعج هو الآخر بالعديد من الجزر المأهولة وببقايا النواعير وزوارق الصيادين والجسور القديمة العائمة على "الدوب" جمع دوبة، وهي وسائط نقل مائية قديمة إنتهت مرحلتها وانتهى دورها، ويلاحظ بأن الضفة الثانية من النهر تمثل بدورها شريطاً من البساتين والخضرة والدور السكنية حيث تنهض مدينة ثانية تدعى "بروانه" كما يلاحظ بأن المسافة بين المنطقة الجبلية والمنطقة النهرية لاتزيد في أحسن الحالات عن مئتي متر، ولهذا فأن ارتقاء المرتفعات الصخرية يهيء للناظر متعة نفسية وبصرية ليس أبهى ولا أمتع منها حيث تمتد أمامه النخيل وأشجار الفواكه ونهر الفرات والزوارق.
معلومات عامة
في عام 1965 نالت حديثة درجة قضاء بعد أن كانت ناحية تابعة لقضاء (عنه)، وتبلغ مساحتها 1637كم2، ويرى المؤرخون بأن حديثة من مدن العراق القديم ويرجع تاريخها أي الى العصر الآشوري والعصر البابلي الحديث، أي إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، ويستدلون على ذلك ببقايا قلعتها القديمة وورود إسمها في الرسائل الآشورية باسم (بيرات) وكذلك في العديد من نصوص العصر البابلي الحديث والعهد البابلي القديم.
ويشار في هذا المجال بأنها كانت إحدى المستوطنات قبل الفتح الاسلامي ولما نزلها العرب في عهد عمر بن الخطاب (رض) عربوا إسمها الآرامي القديم (حذتا)، ويذكر ياقوت الحموي بأن المدينة كانت تضم كنيستين قبل الفتح الأسلامي. ترجع المصادر التي بين أيدينا اسم المدينة الحالي الى (أبو مدلاج التميمي)، ذلك لأنه عندما قام بتحديث بنائها أطلق عليها أسم (الحديثة- بالألف واللام)، وجدير بالذكر ان هذه البلدة كانت تعرف بحديثة الفرات أو حديثة النورة تمييزاً لها عن حديثة دجلة الواقعة إلى الجنوب من إلتقاء الزاب الاعلى بدجلة.
تضم المدينة 35 تلاً وموقعاً أثرياً، كما تضم العديد من مظاهر الطبيعة، فهناك مغارات وأنفاق تمتد إلى مئات الأمتار تحت الارض لم يجر التحري أو الكشف عنها بصورة كاملة، كما توجد فيها منطقة تدعى (الخسفة) وهي حفرة شبه دائرية يبلغ قطرها أكثر من 50 متراً وعمقها يصل إلى عشرين متراً، وينتهي هذا العمق بدهاليز أو أنفاق لم يجر الكشف عنها أيضاً ويعتقد بأنها نتيجة زلزال ضرب المنطقة في عصر ما أو أنها تخسفات ناتجة عن رخاوة التربة، ولعل أهم معالم المدينة هو سد حديثة العملاق الذي تسبب في إغراق عشرات المدن وأنجب بحيرة تمتد إلى قرابة مئة كيلومتر.
تعتمد الحياة الأقتصادية للقضاء على قطاعين رئيسين هما الزراعة والخدمات وقد لعب السد دوراً واضحاً في تحويل مساحات واسعة من الأراضي التي تعتمد على الزراعة الديمية (المطر) إلى أراضي تعتمد على الزراعة السيحية، وأهم حاصلاتها الزراعية هي الحنطة والشعير والبطاطا والأبصال والخضروات زيادة على بساتين النخيل والفاكهة ومع أن مجتمع حديثة يمكن وصفه مجتمعاً متمدناً ومتحضراً ولكن الأنتماء العشائري والكثير من تقاليد القرية والمضايف والدواوين ماتزال تحكم سلوكه العام. ويعتقد أبناء حديثة بأن لا تعارض بين الأثنين ويمكن الجمع بين سلوك "المدينة" وسلوك "القرية" في كف واحدة!